وبما أن المشركين كانت غايتهم من قتال المسلمين ردّهم عن دينهم، كما قال تعالی: "... وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ...الآية"[البقرة:217] فمن الطبيعي أن تكون غاية القتال عند المسلمين التصدي لهذا العدوان ودفع الفتنة من باب المقابلة بالمثل. وبعبارة أخری: المقدمة الأولی:"وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ" بصيغة الاستمرار.

المقدمة الثانية:"وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكونَ فِتْنَةٌ "بصيغة الأمر. فالفِتْنَةٌ = يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ النتيجة: فَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ.

فالقتال إذن شُرِعَ -ضمن ما شُرع- للتَّصدي لردِّ المسلمين عن دينهم ولإزالة هذه النوعية من الفتنة(وهي نوع من الحرابة)، وذلك بغرض تهيئة مناخ آمن للحرية الدينية للمؤمنين، يمارسون فيها شعائرهم الدينية، ويزاولون فيها عباداتهم دون أدنی خوف أو وجل، مصداقاً لقوله تعالی:"...وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً...الآية"[النور:55]

وبناء علی هذا، فلا يسوغ أن يكون المراد من الفتنة في قوله تعالی:"وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكونَ فِتْنَةٌ" الكفر والشرك لسببين:

1- لاشك أن إزالة الكفر والشرك ومكافحتهما مطلوب شرعاً، حيث كانت إقامة التوحيد ومكافحة الشرك والكفر من ضمن رسالات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، ولكن أن تتم مكافحة الكفر والشرك مبدئياً بالقتال، فهذا شيء لايمكن قبوله، لأننا عندما نضع المشرك أمام خيارين: الإسلام أو القتال، فهو تحت ظروف الإكراه ليس له إلا أن يعتنق الإسلام رغما عن أنفه، أويجازف بحياته و يقاتل، وفي هذه الحالة إن هو قاتل وقُتِل، فدمه وحياته مهدورة، وإن قاتل ولم يُقتَل، ثم ظفرنا عليه، فليس أمامه إلا الإسلام أو القتل، ولو سلمنا أنه أسلم تفادياً للقتل، فما قيمة هذا الإسلام الذي يتم تحت الضغط والإكراه الملجئ؟[1]

إن الفقهاء متفقون على اعتبار الإكراه الملجئ وأنه لايترتب عليه شيء، فالإكراه بالقتل أو القطع أو الجرح أو الضرب المفضي إلى شيء من ذلك؛ لا خلاف على اعتباره وترتيب آثاره عليه، عند أهل العلم، فيسقط التبعة عن الأقوال، كما يسقط التبعة عن كثير من الأعمال. ولكن يبدو أن البعض يطبقون هذه القاعدة علی من كفر مُرغَماً، ولا يطبقونها علی من أسلم مُرغَماً، وهذا يعتبر نوعاً من التناقض، إذ كيف يكون إسلام الكافر معتبراً تحت الإكراه، بينما لايكون كفر المسلم معتبراً تحت الإكراه؟

2- قلنا أن إزالة الكفر والشرك ومكافحتهما مطلوب شرعاً، ونحن نستطيع أن نحدَّ من وطأة الكفر والشرك، ولكن لايمكننا أن نقضي علی الكفر والشرك نهائياً، لأنه يتصادم مع مشيئة الله التكوينية في خلق الكفر والإيمان لقوله تعالی:"هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ" [التغابن:2] كما أن الأشياء تُعرَف بأضدادها، ولا معنی للإسلام إلا إذا كان هناك كفر وشرك. وبطبيعة الحال فوجود سُنن أو نواميس في الكون لا ينفي وجود حرية في التصرف بالتأثير على الأشياء، هناك بالفعل مرض وفقر وبلاء، لكن هذا لا يعني أن نستسلم للمرض والفقر، بل يمكن أن نجد مثلاً أدوية لعلاج بعض الأمراض، أو نضع قوانين بالتوزيع العادل للثروات والتخفيف من عبء الفوارق الاجتماعية للحدِّ من الفقر.

ثانياً: مناقشة استدلالهم بقوله تعالى: "فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ" [التوبة:5] إن هذه الآية لا تدل علی أن غاية القتال هي حصول الإيمان والتوبة كما تبدو لأول وهلة، لعدة أسباب:

1- إن الآية تتحدث عن فريق خاص من المشركين، وهُمُ الذين نقضوا العهد ونكثوا الأيمان، و بدؤوا بالحرب أول مرة، ولايرقبون في مؤمن إلّاً ولاذمة، وليس المقصود بها كل المشركين علی العموم باتفاق العلماء، فيجب الانتباه.

2- لو كانت غاية القتال حصول الإيمان والتوبة، كان من المفترض أن تكون خطاب الآية هكذا: "فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ حَتَّى يَتُوْبُواْ وَيُقِيْمُواْ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُواْ الزَّكَاةَ ...." بـ«حتَّی» الغائية، والآية ليست كذلك، فسبحان الله العليم الحكيم.

3- إن الآية لم تجعل غاية قتال المشركين حصول الإيمان والتوبة، بل يبدو أنها جاءت في جواب سؤال مقدَّر تقديره: بعد هذا الأمر الإلهي، لو ظفرنا علی المشركين، فتابوا وأسلموا وأَقاموا الصَّلاة وآتوا الزكاة، فماذا نفعل بهم؟ الجواب: "فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ"

4- عندما يقرأ القارئ هذه الآية قد يُخَيَّل إليه أن غاية القتال هي حصول الإيمان والتوبة، ولكنه ما يلبث أن يقرأ الآيات التي جاءت بعد هذه الآية، حتی يفهم منها بوضوح نقيض المعنی الذي فهمه الشافعية والظاهرية من الآية التي قبلها، ويتكرر هذا المعنی ثلاث مرات ليكذِّب الادعاء القائل بأن غاية القتال حصول الإيمان والتوبة:

المرة الأولی في قوله تعالی:"وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ 6"[التوبة:6] لو كان الكفر هو السبب الدافع علی قتلهم، هل یجوز لنا بعد ذلك أن نعاملهم بهذه الرعاية والحماية الكريمتين وهم مصرون علی شركهم كفرهم؟ إنَّ تلبسهم بالكفر یكفي مبررا لقتلهم كوثيقة إجرام تلاحقهم ولا تنفك عنهم. ولو كان هناك مبرِّرا لإمهالهم حتی یسمعوا كلام الله أملاً في هدايتهم، فليس ثمة أي مبرر لاصطحابهم مكرَّمين تحت درع من الحماية، لیعودو من حیث عادوا، مشركین جاحدين.

فلماذا هذه الرعاية والحماية لهم والرحمة بهم؟ السبب هو التخلي عن الحرابة والجنوح للسلم والمسالمة وليس التخلي عن الشرك.

المرة الثانية في قوله تعالی:"كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ 7" [التوبة:7]

هنا یأمرنا خطاب الله صراحة أن نستقيم في برِّنا بهم ما استقاموا في برِّهم لنا، ويأتي هذا الأمر بعد آية السيف مباشرة، وهذا یعني أن الحكم باستمرار شرعية هذه المعاهدة إنما هو بخطاب جديد، وليس بمقتضی استمرار الحكم السابق الذي يقولون بأنه منسوخ. لو كان الكفر في حد ذاته موجبا للقتال، هل تسوغ لنا معاهدة من أمرنا الله بقتالهم؟ وإذا فرضنا أن المعاهدة تمت قبل نزول آية السيف، أليس من البدهي أن تكون آية السيف إعلاناً لإنهاء لهذه المعاهدة؟

المرة الثالثة في قوله تعالی:"وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ 12 أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ 13"[التوبة:12-13] جعلت هاتين الآيتين نكث الأيمان، والطعن في الدين، وإخراج الرسول، والبدء بالقتال أول مرة، مبرِّراً لقتال المشركين، فلو كان السبب في قتال المشركين هو الكفر بحد ذاته، إذن لما ورد شيء من هذا الكلام قط، إذ سیَّان بعد الكفر الذي هو علة القتال، أن يكون المشركون أمناء علی عهدهم أو ناقضين له، طعنوا في الدين أم لم يطعنوا، أخرجوا الرسول أم لم يُخرجوا، بدؤوا بالقتال أم لم يبدؤوا، فالكفر وحده كاف علة لقتالهم. ثم كیف يُعقَل أن تكون هذه الآیات منسوخة وهي متأخرة عن آية السيف؟ كما قاله الفريق الثاني.

فهذه شواهد ثلاثة، ينطق كل منها بأوضح بيان بأن العلة هي الحرابة والغدر، لا الكفر والشرك.

ثالثاً: مناقشة استدلالهم بقوله تعالى: "قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ" [التوبة: 29]

إن هذه الآية كسابقاتها لا تدل علی أن غاية القتال هي حصول الإيمان والتوبة، لعدة أسباب: أولا: إن الآية أمرت بالقتال لا بالقتل، والفرق كبير بین القتال أوالمقاتلة والقتل، تقول: قتلتُ فلاناً، إذا بدأتَه بالقتل، وتقول: قاتلتُه، إذا قاومت سعيه إلی قتلك بقتل مثله، أو سابقته إلی ذلك كی لاينال منك غرة.

وحكى البيهقي عن الشافعي أنه قال: "ليس القتال من القتل بسبيل فقد يحل قتال الرجل، ولا يحل قتله"[2]

ثانياً: هذه الآية خاطب المؤمنين بمقاتلة أهل الكتاب الذين هذه أوصافهم، فيجب أن تُفهَم هذه الآية في حدود آيات القتال وإطارها، ولیس بعيداً عنها، لأن آيات القرآن كتلة متماسكة، ولايمكن فهم آية فهماً صحيحاً بمعزل عن نظائرها في القرآن الكريم، ونظائر هذه الآية كثيرة تنصُّ علی أن لانقاتل إلا من يقاتلنا، فيجب أن يُخصص عموم هذه الآية بخصوص قوله تعالی: "وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ"[البقرة:190] ونظائرها من الآيات.

ثالثاً: القتال والمقاتلة من باب المفاعلة وهي صيغة تقتضي في الأغلب المشاركة من جانبين أو فريقين في أمر، فهي لاتصدق إلا تعبيراً عن مقاومة لبادئ سبق إلی قصد القتل، فالمقاوم للبادئ هو الذي يسمی مقاتلا، أما البادئ فهو في الحقيقة يُسمَّی قاتلاً، إمّا بالتوجه والهجوم أو بالفعل والتنفيذ. ألا تری أنك تقول: لأقاتلن هؤلاء علی ممتلكاتي أو علی عرضي، فيُفهَم من كلامك أنك عازم علی مجابهة العدوان منهم علی مالك أو عرضك.[3] فالقتال هنا في الآية لیس من جهة المسلمين ابتداء، بل هو قتال من يشاركنا في القتال ویقاتلنا ابتداء.

رابعاً: لقد جعل الله الغاية في الأمر بالقتال الخضوع لنظام الجزية، ولو كانت القتال من أجل الكفر كما قالوا، لما قام الخضوغ لنظام الجزية مقام الإسلام، ولو كان حصول الإيمان والتوبة غاية القتال مع أهل الكتاب، كان ينبغي أن تكون خطاب الآية هكذا: "قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يؤمنوا ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة". إذن فما هي المشكلة التي أنهاها الجزية، حتی انتهی بسبب ذلك القتال؟ إنها مشكلة واحدة، وهي مشكلة الحرابة، فوجود الحرابة هو المبرر للقتال، وانتهاؤها بالاتفاق علی نظام الجزية هو الذي أنهی الحرابة ومدَّ رواق السلم.

رابعاً: مناقشة استدلالهم بقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَنْ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ، فَإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إِلَّا بِحَقِّ الإِسْلاَمِ، وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ»

ما قلناه في الآية 29 من سورة التوبة یصدق علی هذ الحديث، ولكن إضافة إلی ذلك أقول: قد يظن القارئ لأول وهلة أن الحديث يدلّ صراحة علی أن الرسول مأمور بقتال كل الناس لإكراههم علی الإسلام، لأنه جاء بصيغة: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى...» وقد ذهب بعض الفقهاء أبعد من ذلك، واستدلوا بهذا الحديث علی قتل تارك الصلاة، وقد استبعد ابن حجر رحمه الله هذا الرأي وقال: «وعلى هذا ففي الاستدلال بهذا الحديث على قتل تارك الصلاة نظر، للفرق بين صيغة أقاتل وأقتل، والله أعلم. وقد أطنب بن دقيق العيد في شرح العمدة في الإنكار على من استدل بهذا الحديث على ذلك وقال: "لا يلزم من إباحة المقاتلة إباحة القتل، لأن المقاتلة مفاعله تستلزم وقوع القتال من الجانبين، والقتل ليس كذلك"[4]

فإذا كان الاستدلال بهذا الحديث علی قتل تارك الصلاة باطلاً- كما یقول بن حجر وغیره- فكیف یصح الاستدلال بالحديث ذاته علی قتل من أبی الدخول في الإسلام؟ مع أن تارك الصلاة عمداً يتحمل عهدة التكليف بمقتضی كونه مسلماً، كما يتحمل عهدة الإذعان لعقوبات الحدود، أما غير المسلم فلا يتحمل عهدة أي شيء من ذلك.[5]

وللإمام ابن تيمية تعليق جميل علی هذا الحديث، قال رحمه الله:«والمعنی أني لم أؤمر بالقتال إلا إلی هذه الغاية، وليس المراد: أني أمرت أن أقاتل كل أحد إلی هذه الغاية، فإن هذا خلاف النص والإجماع، فإنه صلی الله علیه وسلم لم يفعل هذا قط، بل كان من سيرته: أن من سالمه لم یقاتله»[6] ومعنی كلام شيخ الإسلام هنا في غاية القوة والبيان: «أنه مأمور أن يقاتل من يستحق القتال لحربه وعدوانه علی المسلمين إلی هذه الغاية، وهي: الدخول في الإسلام بالنطق بالشهادتين. فليس في الحديث دلالة علی أنه مأمور بقتال كل الناس حتی يسلموا، بل هو مأمور بقتال الذين يقاتلون إلی هذه الغاية.[7]

ومن هنا يجب أن يُفهَم الحديث ويؤوَّل في ظل القواعد الكلية التي أرساها القرآن الكريم في مقاتلة الكفار، وهي مقاتلة من يقاتلنا، فتأويل الحديث: «أُمِرْتُ أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَنِي حَتَّى...الخ».

بم تتحقق الحرابة؟

قد يسبق إلی الذهن ما يتخيله بعض الباحثين، من أن الحرابة لاتتحقق إلا بوقوع عدوان فعلي، والأمر ليس كذلك، لأن الحرابة ليست محصورة في وقوع عدوان فِعليٍّ علی المسلمين، بل الحرابة تنشأ مع ظهور قصد عدواني، ويتجلی قصد العدوان بدلائله المتنوعة الكثيرة، فإذا ظهر هذا القصد بظهور دلائله، فقد تحقق معنی الحرابة، التي هي مناط الجهاد القتالي.

فمن هذا المنطلق تتحقق الحرابة بأحد الأمرين: 1- عدوان فعلي 2- ظهور قصد العدوان فإذا تبين ذلك، فمتی یملك المسلمون حق الجهاد القتالي ضد من قد تجلی لدیهم قصد العدوان من خلال أدلة بينة ثابتة؟ أفمن حقهم أن یباغتوهم بالقتال بمجرد ظهور هذا القصد مقرونا بدلائله، أم إن عليهم أن ينتظروا حتی يتجاوزوا القصد إلی التخطيط ثم إلی الهجوم الفعلي؟

ومن المعلوم أن ظهور القصد العدواني يكفي لإعطاء المسلمين حق التصدي بل الهجوم، علی من بيَّتوا في أنفسهم هذا القصد، شريطة أن تستبين دلائله. وهذا ما كان رسول الله یفعله في كثیر من الأحیان، يسابق بذلك كید المشركین ومن معهم كي یُفوِّت عليهم الفرصة، وهي ما تُسمَّی في العصر الحاضر بـ«الحرب الوقائية»

 أنواع الجهاد:

من المعروف عند الفقهاء أن الجهاد ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: جهاد الطلب أو الجهاد الإبتدائي، وهو أن يكون العدو في أرضه، ونحن الذين نطلبه.

القسم الثاني: جهاد الدفع أو الجهاد الدفاعي: وهو ماكان لدرء الحرابة وكف العدوان. من هذا المنطلق يجب أن نفهم جهاد الطلب أو الجهاد الابتدایي في هذا السیاق، فليس معنی جهاد الطلب أو الجهاد الإبتدائي أن نبدأ الكفار بالقتال، وإن لم يبدؤونا بالقتال.

غزوات الرسول لم تكن حروباً ابتدائية

لو قمنا باستقراء غزوات الرسول (25 أو 27 غزوة) لانكاد نجد غزوة كانت ابتدائیاً بالمعنی المعهود، أو كان الهدف منها إكراه الناس علی الإسلام، ولم تخرج حروبه " كلها عن ذلك لمن تدبر السيرة وأمعن النظر في حروبه وغزواته "، وهذا هو الذي عليه جمهور الفقهاء في هذه المسألة.

انظر تفاصیل ذلك في الجدول التالي:

اسم الغزوة / علة الغزوة / نوع الغزوة / سبب وقوع الغزوة

غزوة الأبواء (ودّان) / ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / المحاولة لاسترداد أموال المهاجرين المصادرة

غزوة بواط ظهور/ قصد العدوان / جهاد الطلب / إغارة كرْز بن جابرالفهري على سرح المدينة

غزوة بدر الأولى(سفوان) / ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / المحاولة لاسترداد أموال المهاجرين المصادرة

غزوة العشيرة / ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / المحاولة لاسترداد أموال المهاجرين المصادرة

غزوة بدر الكبرى / عدوان فعلي / جهاد الدفع/ إغارة قريش علی المدینة بقیادة أبي سفیان

غزوة بني سليم (قرقرة الكُدْر) / ظهور قصد العدوان /بلغه" أن جمعا كثيرا من بنى سليم يريد مهاجمة المدينة

غزوة سَويق ظهور / قصد العدوان / جهاد الطلب / نقض العهد والأيمان من جانب اليهود

غزوة بني قينقاع / عدوان فعلي / جهاد الدفع / خروج المشركین لحرب رسول الله والثأر لقتلی بدر

غزوة أحد / عدوان فعلي / جهاد الدفع / ملاحقة بقية جیش المشركین بعد غزوة أحد

غزوة حمراء الأسد / ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / نقض العهد والمحاولة لاغتيال الرسول

غزوة بني النضير / ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / تحالف بني محارب وبني ثعلبة من غطفان لحرب المسلمين

غزوة ذات الرقاع (نجد) / عدوان فعلي / جهاد الدفع / إغارة قريش علی المسلمین بقیادة أبي سفیان

غزوة بدر الآخرة / ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / بلغه صلی الله علیه وسلم أن جمعا يريد مهاجمة المدينة

غزوة دومة الجندل/  ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / استعداد بني مصطلق لحرب رسول الله

غزوة المريسيع (بني المصطلق) / عدوان فعلي / جهاد الدفع / تحالف يهود المدینة والمشركین لحرب الرسول

غزوة الخندق (الأحزاب) / عدوان فعلي / جهاد الدفع / نقض العهد والتحالف مع المشركین في غزوه خندق

غزوة بني قريظة / عدوان فعلي/ جهاد الدفع / قتل أصحاب الرجيع

غزوة بني لحيان / عدوان فعلي / جهاد الدفع / إغارة عيينة بن حصن على لقاح رسول الله

غزوة ذي قَرَد (الغابة) / ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / صدُّ المشرکين رسول الله عن الحج والمسجد الحرام

غزوة الحديبية / ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / إثارة قبائل اليهود والأعراب والمشركين لحرب المسلمین

غزوة خيبر / ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / قتل رسول¬رسول¬الله صبراً على يد شرحبيل¬بن¬عمرو امير بُصرَي

غزوة مؤتة / عدوان فعلي / جهاد الدفع / نقض صلح الحديبية من جانب قريش بإعانة بني¬¬بكر على خزاعة

فتح مكة / ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / تحالف هوازن مع القبائل العربية لحرب الرسول

غزوة حنين(هوازن) / ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / ملاحقة قبيلة ثقيف إثر لجوئهم إلی طائف

غزوة الطائف / ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / جمع هرقل الجموع لغزو المسلمين

غزوة تبوك ظهور قصد العدوان / جهاد الطلب / جمع هرقل الجموع لغزو المسلمین

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

 1- الإكراه نوعان: الإكراه الملجئ والإكراه غير الملجئ، أما الإكراه الملجئ؛ فهو ما يعدم الرضا ويفسد الاختيار، وهو الإكراه التام الذي يجعل المكرَه كالآلة في يد المكرِه، ويكون بما يعرض النفس أو أحد الأعضاء للتلف، ويلحق به الضرب الشديد المفضي إلى إزهاق الروح، وإتلاف أحد الأعضاء.
وأما الإكراه غير الملجئ؛ فهو الذي يعدم الرضا ولا يذهب الاختيار، وهو الإكراه الناقص، ويكون بالتهديد بالحبس والقيد، وبالضرب غير المبرح، وإتلاف بعض المال ونحوه.(انظر:الثوابت والمتغيرات، صلاح الصاوي)
  2- بن حجر؛ أحمد بن علي أبو الفضل العسقلاني الشافعي، فتح الباري شرح صحيح البخاري، دار المعرفة، بيروت، د.ط، 1379ﻫ، 1/76
  3- انظر: البوطي؛ سعيد رمضان، الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه؟، ص 59
  4- بن حجر؛ المصدر نفسه، والصفحة نفسها
  5- انظر: البوطي؛ سعيد رمضان، الجهاد في الإسلام كيف نفهمه وكيف نمارسه؟، ص 61
  6- انظر: ابن تيمية؛ تقي الدين أبوالعَباس أحمد بن عبد الحليم بن عبد السلام بن عبد الله بن أبي القاسم بن محمد الحراني الحنبلي الدمشقي (ت728ﻫ) قاعدة مختصرة في قتال الكفار ومهادنتهم وتحريم قتلهم لمجرد كفرهم، تحقیق: عبدالعزيز بن عبدالله بن إبراهیم الزير آل أحمد، الرياض، ط/1، 1425= 2004م- صص95-96
  7- انظر: القرضاوي؛ يوسف، فقه الجهاد، القاهرة، مكتبة وهبة، ط/4، 1435ﻫ-2014م، 1/356